زغرتا في الجغرافيا
موقعها:
زغرتا مدينة لبنانية تقع على الساحل الشمالي، تبعد عن طرابلس حوالي 5 كلم لجهة الجنوب الشرقي، وعن بيروت حوالي 90 كلم. وهي مجموعة من الهضاب، مستطيلة الشكل، تحيط بها من كل جانب بساتين الزيتون والليمون. تعلو عن سطح البحر 150 مترا وعدد سكانها حوالي 20 الف نسمة. يحيط بها من الجهات الأربع تقريبا نهران: نهر رشعين ونهر جوعيت.
الوصول إليها:
تصل إلى زغرتا عن الطرق التالية:
- بيروت- طرابلس- مجدليا- زغرتا
- عابا (الكورة)- بشنين- بسبعل- الجدَيْدة- كفرحاتا- زغرتا
- إهدن- إجبع- أيطو- سبعل- كرمسدة- كفرفو- عرجس- الجدَيْدة- كفرحاتا- زغرتا
- أردة (طريق طرابلس- سير)- كفردلاقوس- المرداشية- زغرتا
مناخها:
مناخ زغرتا ساحلي معتدل بشكل عام، غير أن صيفها حار، وكمية المطر ودرجات الرطوبة مرتفعتان لكونها محاطة بالأنهار والأشجار.
مناخ زغرتا ساحلي معتدل بشكل عام، غير أن صيفها حار، وكمية المطر ودرجات الرطوبة مرتفعتان لكونها محاطة بالأنهار والأشجار.
مواسمها:
في القرون الأربعة الأولى بعد إنشائها، كمشتى لإهدن، ظلت زغرتا بلدة زراعية بشكل تام، تنتج الزيتون والقمح والحبوب وبعض الخضار والاشجار المثمرة الساحلية.ثم عرفت زغرتا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر حركة تجارية ناشطة جدا، حتى أنها لقبت بالـ "بندر" أي المعرض الدائم للحبوب (قمح، شعير، عدس، ذرة الخ...) المعد للبيع والشراء والتبادل التجاري القريب والبعيد: إلى المدن والبلدات اللبنانية الشمالية وصولا إلى المدن والبلدات السورية القريبة من شمالي لبنان. غير أن الحرب العالمية الأولى أوقفت هذه الحركة التجارية تماما، فعكف الزغرتاويون على تعلم الحرف والمهن الخاصة خدمة لبلدتهم والجوار. وقد اهتم الأهالي، فترة من الزمن، بتربية دودة الحرير (القز).
في القرون الأربعة الأولى بعد إنشائها، كمشتى لإهدن، ظلت زغرتا بلدة زراعية بشكل تام، تنتج الزيتون والقمح والحبوب وبعض الخضار والاشجار المثمرة الساحلية.ثم عرفت زغرتا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر حركة تجارية ناشطة جدا، حتى أنها لقبت بالـ "بندر" أي المعرض الدائم للحبوب (قمح، شعير، عدس، ذرة الخ...) المعد للبيع والشراء والتبادل التجاري القريب والبعيد: إلى المدن والبلدات اللبنانية الشمالية وصولا إلى المدن والبلدات السورية القريبة من شمالي لبنان. غير أن الحرب العالمية الأولى أوقفت هذه الحركة التجارية تماما، فعكف الزغرتاويون على تعلم الحرف والمهن الخاصة خدمة لبلدتهم والجوار. وقد اهتم الأهالي، فترة من الزمن، بتربية دودة الحرير (القز).
ثم عرفت زغرتا في فترة ليست ببعيدة، تطورا لافتا في الحِرَف والمهن المحلية مثل البناء والحدادة وصناعة الأحذية وصناعة القصب والسلال، والخياطة والتجارة وغيرها. غير أنه في أيامنا هذه تكاد تتلاشى هذه الحرف والمهن، ولم يبقى منها إلا الشيء القليل، ودخلت زغرتا أخيرا في حركة التجارة الحديثة والخدمات السريعة ... في داخل المدينة وخارجها.
وتبقى زغرتا دوما مشهورة بزيتونها وزيتها، من حيث الوفرة والجودة معا. فشجرة الزيتون قد لازمتها منذ مطلع العهد العثماني، وذلك بشكل قريب ويوميّ. وهي نفسها كناية عن هضبة تحيط بها من كل جانب تلال وهضبات من الزيتون تمتد فتتصل بأكبر مجموعة متواصلة من شجر الزيتون في لبنان: زيتون الكورة وزيتون الزاوية.
أنهارها:
- نهر رشعين: ينبع من جوار بلدة رشعين في الزاوية، من لحف جبل "إيزال" (قوة إيل). نبعه يعلو عن سطح البحر حوالي 130 م ويلقب محليا بنبع "الزريقة" لزرقة مياهه. نهر ساحلي يبلغ طوله 10 كلم. مياهه عذبة باردة وهو ينساب بين بساتين الليمون ويحيط بزغرتا من الشرق والشمال يسقي أراضيها ويدير طواحينها ثم يلتقي بنهرها الثاني جوعيت في ضواحيها الجنوبية ويصب الإثنين في نهر قاديشا الذي يصبح إسمه قرب طرابلس: نهر أبو علي.
- نهر رشعين: ينبع من جوار بلدة رشعين في الزاوية، من لحف جبل "إيزال" (قوة إيل). نبعه يعلو عن سطح البحر حوالي 130 م ويلقب محليا بنبع "الزريقة" لزرقة مياهه. نهر ساحلي يبلغ طوله 10 كلم. مياهه عذبة باردة وهو ينساب بين بساتين الليمون ويحيط بزغرتا من الشرق والشمال يسقي أراضيها ويدير طواحينها ثم يلتقي بنهرها الثاني جوعيت في ضواحيها الجنوبية ويصب الإثنين في نهر قاديشا الذي يصبح إسمه قرب طرابلس: نهر أبو علي.
- "المرداشية": على ضفاف نهر رشعين في الطرف الشمالي الشرقي لزغرتا يقع منتزه "المرداشية" المعروف بجمال موقعه وظلاله الوافرة ومقاهيه الحديثة التي تقدم بنوع خاص الكبة الزغرتاوية الشهيرة.
- نهر جوعيت: طوله حوالي 20 كلم. ينبع من ضواحي إهدن الشمالية الشرقية. ينساب بين عدد من قرى الزاوية، حيث ترفده بعض الينابيع الصغيرة. وبوصوله إلى بساتين الزيتون يحيط بزغرتا من ناحيتي الجنوب والغرب، مارا بجانب بلدات كفرحاتا وقره باش و أصنون، ثم يلتقي بنهر رشعين في ضواحي زغرتا الشمالية الغربية.
تجدر الإشارة إلى أن جوعيت هو نهر شتوي بإمتياز، ينبع من أعالي الجبال قويا وينسكب في أودية عديدة، وعند وصوله إلى المناطق الساحلية يتسبب، بين الفينة والأخرى، بإحداث بعض الفيضانات المحلية، فيردد التقليد المحلي: في سنة كذا حصلت "طوفة جوعيت"...
من المعروف أن اهدن - زغرتا هي مدينة واحدة، مع أن اهدن هي مدينة في اعالي جبال لبنان الشمالية، وزغرتا مدينة ساحلية قريبة من شواطئ طرابلس. السكان هم هم أنفسهم في المدينتين، يقضون فصل الصيف في اهدن وبقية فصول السنة في زغرتا، ولكل عائلة بيتها وأرزاقها وممتلكاتها في كل من المدينتين. إنها في الواقع ظاهرة فريدة من نوعها على الصعيدين الجغرافي والديموغرافي.
غير ان هذه الظاهرة إهدن - زغرتا، هي حديثة العهد نسبياً في التاريخ العريق، فإهدن هي المدينة الأولى الأصلية التي يرجع تاريخها العريق، دون ريب، الى بداية البشرية... أما زغرتا فهي الموقع الساحلي الذي اختاره الاهدنيون ليقضوا فيه فصل الشتاء، وذلك في بداية العهد العثماني...
وحديثنا هنا يقتصر على مدينة زغرتا فقط محاولين إلقاء بعض الأضواء على تاريخها فنعرض باختصار الأمور التالية:
اولا - تفسير اسم زغرتا في اللغة والتاريخ.
ثانيا - كيف تملك الاهدنيون مدينة زغرتا كمشتى لهم.
ثالثاً - بعض ما كتبه المؤرخون عن زغرتا.
أولاً: إسم زغرتا
هناك محاولات عديدة ومتباينة لتفسير اسم " زغرتا ". ومن هذه المحاولات التصحيف الشعبي المبني على قرينة لفظية ظاهرية، والذي يربط الاسم " زغرتا " بفعل عربي يفيد معنى " التصغير". فيقول " زغّرتا " باللجهة الشعبية، بمعنى " صغّرتها " أو جعلها " صغيرة "...
ولا داعي للقول بأن هذا تفسير شعبي سهل وسطحي لا يستند الى اي مرجع علمي أو لغوي رصين. إذ أن سكان إهدن، عندما رمموا بلدة زغرتا القديمة وجعلوها مقراً شتوياً لهم في بداية العهد العثماني، عام 1519، كانوا يتكلمون، دون أدنى شك اللغة السريانية. فلا مجال إذا لربط اسم " زغرتا " بفعل عربي يفيد التصغير. فاسم زغرتا أقدم من ذلك بكثير. نحن نحاول، في اللمحة التاريخية الخاطفة التالية، أن نعطي تفسيراً لغوياً لاسم " زغرتا،" مبنياً على البراهين اللغوية والعلمية، في إطار الجغرافيا والتاريخ...
قبيل الحرب العالمية الثانية ( 1939 - 1945)، جرى التنقيب في موقع " تل الحريري " واتضح أنه " ماري " القديمة عاصمة الاموريّين. وتقع " تل الحريري " اليوم على بعد ميل غربي الفرات قرب بلدة أبو كمال، وكانت " ماري" في العصور القديمة على ضفة النهر. وكانت الاكتشافات التي عثر عليها من أعظم ما كشفته أعمال التنقيب في العصور الحديثة. فقد تضمنت اكثر من 20000 لوح مسماري وهو عدد لم يخرجه أي موقع آخر باستثناء نينوى. واللغة في معظم الأحيان أكادية غير أن المفردات والمميزات الصرفية والنحوية لا تترك مجالاً للشك بأن الذين كتبوا تلك الألواح تكلموا الامورية أو اللغة السامية الغربيّة المختلفة عن الأكاديمية أو السامية الشرقية، وتمثل الألواح محفوظات زمري ليم ( 1730 - 1700 ق.م.) اخر ملوك " ماري" الذي قضى على دولته أعظم ملوك ذلك العصر وهو حمورابي. وبين الألواح - التي تشكل مكتبة أثرية كبيرة - تحارير مثيرة جداً كتبها الملوك والموظفون ووثائق اقتصادية وادارية واجتماعية وتقارير مختلفة لها قيمتها الخاصة.
وفي بعض التقارير والمراسلات التي لها علاقة بالخارج، ورد اسم زغرتا - المدينة الشمالية اللبنانية الحالية - أكثر من مرة بصيغة ZA-GA-RA-TA والكلمة هذه ترد الى جذر سامي مشترك ZE-AR ( وزن افتعال) أو SE-GAR أو ZE-GAR وكلها واحد تفيد في الاصل، الإطباق والاحاطة والتسوير. وفي الآرامية ZIGGOURAT، في اللغات الاوروبية الحديثة، " زِقُّرَةْ" ( برج ديني من عدة طوابق يعرف الى اليوم أن هندسته خاصة ببلاد ما بين النهرين - التي كانت " ماري عاصمتها الشهيرة...) وبرج بابل الشهير نفسه... يسمى ZIGGOURAT وهو كان أكبر برج صنعه البابليون...
انطلاقاً مما تقدم، يكون إسم " زغرتا " الذي ورد الأول مرة في التاريخ بصيغة ZA-GA-RA-TIMأيام الاموريين، يفيد معنى التسوير والتحصين.. وفي الواقع، كانت زغرتا في القديم مطوقة بسور كبير تتخلله المرامي وعلى أكمتها يتربع حصن أو قلعة حربية كبيرة. زغرتا = الحصن أو المحصنة...
ثانياً: كيف تملك الاهدنيون مدينة " زغرتا " كمشتى لهم؟
نكتفي في هذا الموضوع بنشر ما كتبه المؤرخ سمعان خازن في " تاريخ زغرتا القديم والحديث " نقلاً عن تقليد شفهي. يقول المؤرخ: " كان الاهدنيون، كباقي اللبنانيين المقيمين في الجرود العالية، يقضون فصول الشتاء القاسية في قراهم الجبلية النائية بين الثلوج وفي مهب الارياح والعواصف، لافتقارهم الى مكان في السواحل يقضون فيه فصل الشتاء فيقيهم شدة البرد والأمراض الناتجة عنه.كثيراً ما كانت تضطرهم أيام الشتاء الظالمة الى ملازمة منازلهم السفلية أياماً متوالية جالسين القرفصاء قرب مواقد النار، يقضون اوقاتهم قراءة القصص الحماسية أو سرد النوادر والحكايات. وعلى الرغم من ذلك كانت حياتهم محفوفة بالمخاطر والضيق والأمراض. ويظهر ان العناية الالهية استجابت أدعية الشيوخ والنساء والأطفال الاهدنيين الذين كانوا يتذمرون من مرارة الشتاء ويخشون أضرارها أكثر من غيرهم، فسهلت هذه العناية للأهدنيين السبل لاقتناء مزرعة في السواحل بنوا فيها المنازل وقضوا فيها أشهر الشتاء القاسية وأصبحت مشتى أميناً واسعاً لهم. أما كيف تملك الاهدنيون مزرعة زغرتا التي أصبحت فيما بعد اعظم المدن اللبنانية شهرة، وفي أي سنة تملكوها، ومن سهل لهم السبل في اقتنائها، فهذا ما نبينه في أسطرنا التالية، مستندين في بحثنا هذا الى وثيقة تاريخية قديمة العهد مسطرة بالكرشوني برسم رومانوس افندي يمين ابن الخوري جرجس يمين القاضي الشهير في لبنان والتي أطلعنا عليها حفيده المرحوم يوسف بطرس رومانوس يمين والمحفوظة نسخة عنها بين اوراقنا وهذا مضمونها بنصّه:
في سنة 1515 مسيحية اشتعلت جذوة الحرب بين السلطان سليم ملك القسطنطينية وبين قانصوه الغور ملك مصر، لأن هذا الأخير كان يمد اسماعيل شاه الأعجم بالعتاد والرجال والمؤن عندما كان يحارب السلطان سليم. فلما سحق السلطان سليم شاه العجم، إرتد بعساكره الظافرة على الغوري ملك مصر فنشبت بينهما معركة هائلة في مرج دابق بالقرب من مدينة حلب انتهت بسحق عساكر الشراكسة. ففر ملكها الغوري. وكانت الديار الشامية عهدئذٍ في حكم ملك مصر. وكان خير بك نائباً للغوري في حلب والغزالي نائباً له في دمشق. وقبل المعركة الفاصلة بين الجيشين، كتب السلطان سليم الى هذين النائبين يطلب اليهما الانضمام اليه، واعداً اياهما بأنه اذا انتصر على جيوش مليكهما يوليهما على الولايات الشامية، وهكذا حصل.
فعندما حميَ وطيس المعركة بين الجيشين في مرج دابق، انضم خير بك والغزالي ومن معهما من العساكر الشامية الى صفوف السلطان سليم. وكان انضمامهما مع عساكرهما سبباً من الاسباب التي قضت بسحق الغوري وجيوشه. ومن فرط غضب الغوري لانكسار جيوشه ولسبب خيانة نائبيه خير بك والغزالي، طعن نفسه بخنجره فقتل ودخل السلطان سليم مدينة حلب ظافراً وولى الغزالي على الديار الشامية وخير بك على الديار المصرية وترك وزيره سنان باشا في الديار الشامية ليشرف على ادارتها. ثم سار السلطان سليم بجيوشه الى مصر لمحاربة طومان باي الذي كان الشراكسة أقاموه ملكاً على مصر خلفاً لعمه الغوري. وأثناء وجود السلطان سليم في مصر كتب الى الغزالي والى وزيره سنان باشا ان يجمعا الأموال من الديار الشامية ويأتيان بها الى مصر. فجمعا الأموال وجاءا بها من دمشق الى طرابلس.
وكانت الطريق المؤدية من دمشق الى طرابلس تمر عهدئذٍ في سهل البقاع فبعلبك فظهر القضيب فالأرز فإهدن فطرابلس. فسلك الغزالي وسنان هذه الطريق مع اتباعهما ووصلوا إهدن في مساء اليوم الرابع والعشرين من شهر كانون الأول سنة 1515. فنزل الوزير والغزالي ضيفين مكرمين على الشيخ اسكندر ابن ريس إهدن وابن عم المطران يعقوب ابن الريس الاهدني، ونزل اتباعهما ضيوفا على الاهدنيّين. وكان ذلك الليل من اشد أيام ذلك الشتاء قساوة.
فقد هبت فيه عواصف شديدة عقبها سقوط الثلج بغزارة نادرة، إذ دام سقوط الثلج مدة يومين كاملين، فسدت الطرق والمعابر، واضطر الوزير والغزالي واتباعهما ان يمكثوا في اهدن مدة خمسة ايام لم يبرحوا خلالها مواقد النار لشدة البرد. وقد أبدى الشيخ اسكندر ومطران اهدن ( قرياقوس الدويهي الاهدني 1513 - 1550) لضيفيهما الكريمين من اللطف والأنس وحسن الضيافة ما أدهشهما. وقد اتفق أن مات طفل في اهدن فاجتمع الاهدنيون للأحتفال بدفنه، وبعد جهود جبارة تمكن الاهدنيون من جرف الثلوج المتراكمة على الطريق المؤدية الى الكنيسة والى المقبرة حيث دفنوا الطفل.
وكأن المشهد قد أعاد الى حوزي ( سائق العربة) الضيفين الكريمين الأمل، فطلبا من مضيفهما أن يوعز الى رجال اهدن بفتح الطريق المؤدية الى طرابلس، لأن اشغالهما تضطرهما لمغادرة اهدن. فعندما رأى الشيخ اسكندر ومطران اهدن ان الوزير والغزالي يلحّان بالرحيل استنجدا بأبناء بلدتهما الاباسل، فنهضوا نهضة الأسود رجالا ونساء وفتيانا وفتحوا الطريق من اهدن الى وادي حيرونا (قرب أيطو) حيث خفت الثلوج وبانت اليابسة، وهناك ودعوا الوزير والغزالي وعادوا راجعين الى منازلهم، وكان عملهم قد ترك اثرا عميقا في نفسي الضيفين الكريمين.
سار الوزير سنان والغزالي واتباعهما الى طرابلس ومنها الى مصر لتأدية الأموال الى السلطان سليم. وبعد مضي اربعة اشهر اي في شهر نيسان سنة 1516 تناول مطران اهدن والشيخ اسكندر كتابا من الغزالي يخبرهما فيه ان الوزير سنان لدى وصوله الى مصر، عرض للسلطان سليم المعاملة الطيبة والضيافة الحسنة والغيرة التي ابداها نحوه الاهدنيون اثناء اقامته الجبرية في بلدتهم اهدن، والتمس من جلالته ان يكافئ هؤلاء القوم على حسن صنيعهم، وان جلالة السلطان سليم وعد وزيره سنان بأنه سيعطف على الاهدنيين ويشملهم بنظره العالي حالما ينتهي من محاربة المصريين، وقد ختم الغزالي كتابه قائلاً: ان الوزير سنان قد سقط قتيلاً في حومة الوغى. فحزن عليه الاهدنيون حزناً عميقاً. ولم يمض القليل على هذا الكتاب حتى عاد الغزالي من مصر الى طرابلس، بعد ان جدد له السلطان سليم الولاية على الديار الشامية. وبعد وصوله الى طرابلس أوفد رسولا الى اهدن ليخبر مطرانها والشيخ اسكندر بقدومه وليوعز اليهما والى سائر اعيان اهدن بالنزول الى طرابلس للسلام عليه، فهبط الجميع الى طرابلس وهنأوا الغزالي برجوعه سالما مقدمين خضوعهم للسلطان سليم داعين له بالنصر على أعدائه وذارفين دمعة حرى على الوزير سنان. وقد استقبلهم الغزالي بكل بشاشة وأجل قدرهم وقربهم اليه، وسألهم عن احوالهم وطلب منهم ان يبلغوه تمنياتهم. فنهض الشيخ اسكندر شاكراً له شعوره وعطف السلطان سليم قائلاً: اننا نقيم في اهدن صيفا شتاء وهذه الاقامة الدائمة تجعلنا نقاسي الآلام وشدة البرد والضيق في فصل الشتاء كما شاهدتم انتم عن كثب. فيا ليت جلالة السلطان ينعم علينا بمكان في مقاطعة الزاوية الساحلية نبني بعض المنازل لقضاء ايام الشتاء القاسية فنتقي شرها وويلاتها. فاستجاب الغزالي بالحال التماس ضيوفه وأمر معتمديه أن يذهبوا برفقة الشيخ اسكندر وأعيان اهدن ومطرانها الى الزاوية وينتقوا المكان الملائم لسكنهم وينظم لهم صكا يعرضه على جلالة السلطان فيصادق عليه بفرمان شاهاني. فذهب المعتمدون والشيخ اسكندر وموظفوه اولا الى قرية علما ثم الى محلة مجدليا اللتين كانتا خرابا وغير مأهولتين منذ الحروب الصليبية التي دارت رحاها تحت اسوار طرابلس قبل ذلك العهد، فلم يرق هذان المكانان في عيون الشيخ اسكندر واعيان اهدن، بل وجهوا انظارهم الى مزرعة صغيرة قائمة على هضبة بالقرب من مياه نهر رشعين ومياه نهر جوعيت والتي لم تكن تحتوي عهدئذ الا على بعض المنازل المندثرة حول برج شاهق قائم في وسطها يرجع عهده الى ما قبل مجيء الصليبيين. وقد ارتاح الاهدنيون لدى مشاهدتهم هذه المزرعة الشبيهة بجزيرة تكتنفها المياه من كل جانب، وقالوا: اذا كان لا بد من منحنا محلا نقضي فيه فصل الشتاء فليكن هذا المحل المقفر المندثر فأخذ في الحال معتمدوا الغزالي حدود هذه المزرعة التي كانت عهدئذ كما يلي: شرقا الطريق الممتدة من نهر رشعين الى قرية كفرحاتا على خط مستقيم. وجنوبا من هذه الطريق نزولا الى نهر جوعيت " فالغميقة " الواقعة على الضفة اليمنى من هذا النهر، وغربا مجرى ماء نهر جوعيت وما بقي من الأراضي الواقعة بقربه وشمالا مجرى ماء نهر رشعين.
عاد المعتمدون والاهدنيون الى طرابلس وعرضوا للغزالي نتيجة رحلتهم، فاخذ حدود المزرعة التي انتقوها ووعد بأنه سيلتمس من جلالة السلطان سليم اصدار فرمان شاهاني يتملك الاهدنيون بموجبه تلك المزرعة مكافأة لهم على حسن صنيعهم مع وزيره سنان بك. وبعد مضي ثمانية اشهر على ذلك، أرسل الغزالي كتابا الى الشيخ اسكندر يخبره فيه ان جلالة السلطان قد تنازل وأصدر فرمانا شاهانيا يمنح الاهدنيين المزرعة التي وقع اختيارهم عليها وطلب منه ان يحضر بذاته الى مدينة دمشق ليتسلم الفرمان الصادر باسمه. فأطلع الشيخ اسكندر مواطنيه على كتاب الغزالي، فامتعضوا من تنظيم الفرمان الصادر باسم الشيخ اسكندر وحده دون غيره، ولكنهم أخفوا عنه امتعاضهم. فتداول الشيخ اسكندر والمطران وأعيان اهدن بشأن الفرمان والذهاب الى دمشق لجلبه، وما اذا كان من اللازم ان يرافق بعض الاعيان الشيخ اسكندر في سفره هذا. ولما كان الفرمان يقضي على اهل اهدن بدفع الرسوم المترتبة على صدوره وهي خمسماية كيس سلطاني ( والكيس السلطاني ثلاثون قرشا) فقد طلب الشيخ اسكندر من مواطنيه أن يمدوه بمساعدتهم ويجمعوا معا هذا المبلغ ليقدموه الى الغزالي تسديداً لرسم الفرمان.
وكانت تلك السنة ضيقة على الاهالي بسبب الضرائب الباهظة والحروب التي نزلت بالبلاد الشمالية فلم يتمكن الاهدنيون من جمع المبلغ المطلوب، فضلا عن انهم كانوا امتعضوا من تنظيم الفرمان باسم الشيخ اسكندر دون سواه الامر الذي جعلهم يمتنعون عن الاشتراك بدفع ما يترتب عليهم. فاضطر اذ ذاك الشيخ اسكندر ان يبيع مصاغ زوجته واثاث داره فبلغت قيمة المبلغ مائتي سلطاني، وبقي عليه ايجاد الثلاثماية سلطاني الباقية، فاستقرضها من الميسورين من بلدته ووضع املاكه تحت تصرفهم تأمينا لدينهم.
ولما تيسر لديه المبلغ بتمامه ولم يشأ احد مواطنيه أن يرافقه الى دمشق، ركب بغلا ومعه الدراهم ومؤونة الطريق متوجها الى دمشق، مارا بالأرز فظهر القضيب فسهل بعلبك فالبقاع حتى دمشق متكلا على الله.
وصل السيخ اسكندر الى دمشق فاستقبله الغزالي ببشاشة وأنزله ضيفا عليه، ولم يقبل الغزالي من ضيفه سوى مائتي سلطاني قيمة ما تكبده من المصاريف للحصول على الفرمان الشاهاني، وأعاد الثلاثمائة سلطاني الباقية الى الشيخ اسكندر وسلمه الفرمان. فهمّ هذا الاخير بالعودة الى اهدن، فلم يدعه الغزالي يذهب بل طلب منه ان يبين له عدد الرجال الموجودين في اهدن. فاستولى الرعب على الشيخ اسكندر وخامره الشك في سؤال الغزالي وظن ان القصد من هذا السؤال معرفة عدد رجال اهدن لاخذهم جنودا. فصمم النية على مغادرة دمشق سراً. بيد ان الغزالي لاحظ الارتباك البادي على وجه الشيخ الاهدنيّ، فطيب خاطره وأعلمه بأنه اذا طلب ذلك فانما طلبه ليعلم بالضبط عدد رجال اهدن ليرسل الى كل واحد منهم عباءة من حرير. فأعلمه عندئذ الشيخ اسكندر عن عدد رجال بلدته. فأمر الغزالي رجاله ان يرزموا قطع الحرير ويحملوها على بغال. وأرسل مع الشيخ اسكندر أربعة من فرسانه للمحافظة عليه في الطريق. فودع الشيخ اسكندر الغزالي وشكر له معروفه وحسن صنيعه. بلغ الشيخ اسكندر اهدن ولم يحضر احد من الاهدنيين الى داره ليسلم عليه لكدرهم منه. وبعد ان اضاف فرسان الغزالي واكرم عليهم، عاد هؤلاء الى دمشق.
ذهب الشيخ اسكندر الى مطران اهدن وأطلعه على ما جرى له مع الغزالي وكيف أنه أرسل عباءة من حرير لكل من رجال بلدته، ثم اخرج أمامه الفرمان الشاهاني وبعد ان تصفحه المطران قال للشيخ اسكندر: " ان الاهدنيين يخشون ان تمتلك القرية الساحلية وحدك وتستقل بأملاكها وموقعها انت وذووك لأن الفرمان صادر باسمك دون سواك!" فأجابه الشيخ اسكندر " وان يكن الفرمان صدر باسمي وحدي، فان المزرعة التي منحنا اياها جلالة السلطان ستكون مشتى لجميع الاهدنيين على السواء وان نصيبي سوف لا يتجاوز نصيب اصغر صلعوك من بلدتي اهدن". فأطلع المطران أهالي اهدن على ما قاله الشيخ اسكندر. فقال الاهدنيون لسيادته " اذا كان الشيخ اسكندر يقول الحقيقة فليذهب معنا برفقة سيادتك الى الكنيسة ويربط قوله هذا بيمين معظمة على الانجيل المقدس بحضورك وحضورنا". فلبى الشيخ اسكندر فوراً طلب مواطنيه وذهبوا جميعاً الى كنيسة مار ماما ووضع الشيخ الاهدني يده على الانجيل المقدس قائلاً: " اقسم بالله العظيم أمام سيادة المطران وامام جميع الحاضرين بأنني لا أخصص لا لنفسي ولا لذويّ نصيباً من المزرعة الجديدة اكثر من غيرنا من اهالي اهدن". فارتاحت عندئذ صدور الاهدنيين وزالت مخاوفهم وشكروا الشيخ اسكندر شكراً جزيلاً على ما بذله من جهود وتضحيات وما تكبده من اسفار ومشقات في سبيل مواطنيه ( عن النسخة المحفوظة بين اوراقنا. وقد نشرنا نص هذه الوثيقة النفيسَة في جريدة " صدى الشمال" الاهدنية خوفاً من ضياع مضمونها العام)."
ثالثاً: ما كتبه المؤرخون عن زغرتا
زار زغرتا المؤرخ الرحالة الفرنسي بوجولا في شهر حزيران سنة 1831 وكتب عنها ما يلي: " … ومن طرابلس قصدت زغرتا، وهي على مسافة نصف ساعة تغطي اراضيها اشجار الزيتون والتوت والكروم والمشمش والليمون على اختلاف انواعه، يمر فيها نهر رشعين ونهر جوعيت. ومطران اهدن - زغرتا يلقب بمطران عرقا، وكنيستها اجمل كنيسة في سوريا، وفي داخلها أضرحة من الرخام وحجر البلاد تضم رفات مطارنتها الموارنة وقناصل فرنسا. وقد رأيت بينها ضريح السيد الفونس غي قنصل فرنسا المتوفي في طرابلس والد قنصل فرنسا الحالي ببيروت السيد هنري غي. وقد رافقني الى زغرتا السيد شارل غي قنصل طرابلس واخوه السيد مارك والسيد روتيه الترجمان المعاون وبعض اعيان الموارنة في طرابلس. ومشمش زغرتا يفوق مشمش دمشق جودة ولذة. وكان إذ ذاك أبان نضوجه ولأجله كان اجتماعنا في بساتين زغرتا عقب وليمة فاخرة سادت فيها الديوك والكبة وغمام الغنم مع اتباعها من رؤوس وكراعين ومحشي ورق العنب. اقامها لنا مطران زغرتا بأريحية نادرة. وهذا الحبر هو خريج جامعة البروباغندا في رومية ويتكلم اللاتينية والايطالية بفصاحة صافية بليغة، وذو ثقافة وفيرة حصلها مدة إقامته في اوروبا مع نضوج في أفكاره ورجاحة عقله. وهو أحد اثنين وثلاثة من الاكليروس الشرقي لم أرَ غيرهم اهل علم ونور في الشرق. يرتدي جبة سوداء وطابية وحذاء اسود في رجليه العاريتين. ويستحيل ان لا تستهويك عذوبة كلامه وبساطة أسلوبه ودماثة اخلاقه ورقة قلبه وجماله، يزين كل النهار وقار مهيب ونسك انجيلي. وبالاختصار قد ذكرني هذا المطران باولئك الرعاة الاحبار في عهد الكنيسة الاول الذين كانوا يحملون على صدورهم صلباناً من خشب وفي داخلهم قلوب الهية. وكان يسود الوليمة جو من السرور والضجة وقد شربنا نخب الاعيان من المدعوين. ومن عادة البلاد أن كل نخب يجب ان يتبعه غناء او حوربة. ان الماروني يجيد الغناء. فصوته شجي يمكنه ان يجيد جميع الالحان العالية. وخلال الغناء الذي يعقب النخب لا أحد يأكل، بل يحمل كل مدعو كأسه في يده. وبعد الغناء تفرغ الكؤوس على صحة من شرب نخبه.
وزار زغرتا الاب غودار اليسوعيّ سنة 1902 وكتب عن هذه الزيارة ما يلي: "
" زغرتا هي البلدة المارونية الصرفة، هي الكابوس الرهيب لأعدائها، هي الشباب المدرّع المشدود الساقين بالجزمات والموثق الاضلاع، يتدرع بصدريَّة بيضاء، موشاة بتخاريم صفراء ويشد الراس بعصابة فوق وجه تنبعث منه بطولة رهيبة. غير ان من يثبت حقيقة زغرتا لا يجدها مخيفة نظير شهرتها، بل يراها ناعمة فوق اكمتها الوثيرة، تتغلغل في غابة من الزيتون انها فراءٌ ناعمة، رابضة على ملتقى نهري رشعين وجوعيت، تستحم في شمس المساء وتنظر الى قدومنا برصانة ورواء. وكنيستها السيدة الشهيرة رابضة يثقلها الراجح وجدرانها الثخينة. ولولا قبة الجرس لحسبتني منها أمام قلعة حصارية. " وكانت زغرتا قرية صغيرة مطوقة بسور تتخلله المرامي، وعلى أكمتها تتربع القلعة مستندة اليها كنيسة لوالدة الاله صغيرة استأثرت بأشد ما في القلوب من محبة واخلاص. وكان الناقوس حينذاك من الخشب يدعو الشعب الى تلك الكنيسة، فيدخلها من الباب الضيق ويلثم الأرض بشفتيه ويركع على الحضيض المجرد. ثم يصلي بتكرار وتكرار مسترحماً الرب وأمه العذراء. وكانت زغرتا حداً بين الخطر والايمان، واقعة بين طرابلس والجبل، تتلقى الضربات الأولى ثم تسدّدها الى صدر الضاربين. فاكتسب ساكنوها عاجلاً شهرة المحاربين المجلين، صناديد في كل حين. وهمنا في كل ذلك، العودة الى الأصول والينابيع والجذور التاريخية، وعرضها بشكل مبسط ومختصر، أمام أجيالنا الصاعدة، ليعوا ذاتهم التاريخية بكل أبعادها. فيستلهمون الماضي ويعيشون الحاضر ويخططون للمستقبل. ان تاريخنا عريق الى ابعد حدود العراقة. والشعوب التي ليس تاريخ ليس لها مستقبل... وجدير بالذكر أخيرا أن زغرتا، التي هي حديثة العهد نسبيا، كونها مشتى حديث لإهدن، قد عرفت مؤخرا نهضة عمرانية وإنمائية لافتة...
المراجع:
- الأب لامنس اليسوعي، "تسريح الابصار على ما يحتوي لبنان من آثار"، الجزء الأول، ص. 105
- الأب غودار اليسوعي، "العذراء في لبنان"، فصل زغرتا.
- ميشو وبوجلا، "مراسلات من الشرق"، الجزء السابع، ص. 212، 213.
- سمعان الخازن، تاريخ زغرتا- القديم والحديث، 1966، الفصل الأول، ص. 15- 28
- سترابون، "الجغرافيا"، الكتاب 16، الفقرة 2.
- بلينوس (القديم)، الكتاب 5، الفقرة 18.
- الدكتور فيليب حتّي، "تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين"، الجزء الأول، الفصل السابع، صفحة 72 و 77 مع الحاشية رقم (1).
- André Parrot, “ les peintures du Palais de Mari” in revue “ Syria” Vol, 18,
1937, pp. 324 - 325
- “ Les Fouilles de Mari”, “ Syria”, Vol. 19, 1938, pp. 1-29, Vol. 20, 1939,
pp. 1-22
- W.F. Allright, “ An Indrect Sychronisme Egypt and Mesopotamia, cir, 1730
B.C. Bulletin, American Schools of Oriental Research, Numero 99,
pp. 9-10.
- Georges Dossin, “ Les Archives epistolaires du palais de Mari”, “ Syria”,
Vol. 19, 1938. Pp. 105-126.
- Les Archives économiques du Palais de “ Mari”, Vol. 20, 1939, pp. 97-113.
1937, pp. 324 - 325
- “ Les Fouilles de Mari”, “ Syria”, Vol. 19, 1938, pp. 1-29, Vol. 20, 1939,
pp. 1-22
- W.F. Allright, “ An Indrect Sychronisme Egypt and Mesopotamia, cir, 1730
B.C. Bulletin, American Schools of Oriental Research, Numero 99,
pp. 9-10.
- Georges Dossin, “ Les Archives epistolaires du palais de Mari”, “ Syria”,
Vol. 19, 1938. Pp. 105-126.
- Les Archives économiques du Palais de “ Mari”, Vol. 20, 1939, pp. 97-113.
إرسال تعليق